داليا جمال تكتب : لا..لا…لا تكتبي !
منذ سنوات طويله عندما كان للصحافه هيبتها وقيمتها ، وكان قلم الصحفي الشريف يقيل حكومات ، ويطيح بكراسي وزراء ، ويقض نوم رؤساء الوزارات في مضاجعهم ، وعندما كانت الكلمه في الجريده تكال بمكيال الذهب..وعندما كانت الصحافه بالفعل هي السلطه الرابعه .
حكي لنا الأستاذ عبدالفتاح الديب شيخ المحررين البرلمانيين وأستاذ ألأساتذه ، أن الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي كان واحدا من كتاب المقالات في أخبار اليوم ، وقد فوجئ ذات صباح بأن هناك كلمه تم حذفها من مقاله ، فأخذ قراره علي الفور بالتوقف عن الكتابه لأخبار اليوم.
وفي العدد الجديد انتظر الكاتب الكبير مصطفي أمين رئيس مجلس إدارة ومؤسس ومالك أخبار اليوم ، مقال عبدالرحمن الشرقاوي ، ففوجئ بما حدث وبقرار الشرقاوي ، فاتصل العملاق مصطفي أمين بالأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي تليفونيا ليعتذر ويؤكد له أن ماحدث كان خطأ غير مقصود وأن الكلمه سقطت سهوا من عامل الجمع اليدوي ، إلا أن الشرقاوي أصر علي موقفه معتبرا أن حذف كلمه من مقاله او اغفالها سهوا ، هي جريمه وإهانه لا تغتفر في حق الكاتب .
فما كان من الأستاذ مصطفي أمين إلا أن توجه بسيارته الي بيت عبدالرحمن الشرقاوي ، ليقدم له الاعتذار بنفسه ويتأبط ذراعه ليتوجها سويا الي أخبار اليوم ،البيت الكبير، لأنه لا يمكن أن يقبل إهانة كاتب ، أو خسارة قلم حر له وزنه.
سمعت هذه القصه وتحسرت علي حال صحافتنا القومية ، وعلي أقلام كتابها الكبار المجترمين ، الذين كتب عليهم ان يشهدوا اليوم الذي تمنع فيه مقاله لكاتب لأنها لا تروق لمزاج السيد رئيس التحرير ، أو لأنها لا تتفق مع مصالحه الشخصيه !!
أو لأن الجهه العليا التي تمنح وتمنع الصحف من نشر الأخبار عن واقعه او حادثه او قضيه قوميه قررت أن ما يكتبه الصحفي لا يتناسب مع الصوره الذهنيه التي يجب أن تنقلها الصحافه للقارئ..والتي مفادها دائما أن كله تمام …وأن الدوله تكافح لأجل رفاهية المواطن ، وأن العيب كل العيب في المواطن الذي يأكل ولا يشبع ! ويطلب ولا يعمل !
فيقرر رئيس التحرير حجب مقال أو تغيير عنوان مقال اخر ، بل وصل الأمر الي تدخل أحدهم بمحاولة إضافة فقره من بنات أفكاره في مقال صحفي كتبه غيره , متجاهلا ان المقال مسؤلية كاتبه !!
لهذا فأنا التمس العذر للقارئ الذي أصبح ساخطا علي الصحافه القوميه لما تحتويه من موضوعات لاتخصه في شيئ ، ولما تحمله من أخبار ورديه لا تعبر بصدق عن معاناته اليومية مع الهيئات والوزارات وفي الشارع ، ولا تناقش قضاياه وهمومه الحياتيه ، ولا تفرد صفحاتها لرصد السلبيات والإيجابيات في كل مكان ، ولم تعد تسلط الضوء علي القضايا الحقيقيه للوطن ولا للمواطن ، لتقوم الحكومه بدورها في حلها أو القضاء علي الفساد في مكمنه ،فلا حديث عن ارتفاع أسعار مسموح ، ولا تحقيقات مباحه عن إهدار مال عام نتيجة سوء تخطيط !!
ولا ضوء اخضر يسمح بنشر مقال يطالب بكشف السر وراء إصرار الحكومه علي قطع الأشجار في شوارع بلدنا ، او حجب البحر بسياج حديدي علي كورنيش الاسكندريه !
ويقينا فإن القارئ معذور عندما يظن السوء بالصحافة ويتهمها بالتطبيل والتضليل ، والقارئ معذورأيضا عندما يري أن جميع الصحف القومية لا فائدة منها ويطالب بغلقها نظرا لما يسمعه عن ديونها وخسائرها التي تجاوزت عشرات الملايين دون جدوي حقيقيه لاستمرارها لأنها لاتقدم شيئا ذو قيمه !
فالقارئ الغاضب لم يتخيل مثلا أنه ممنوع علي كاتبي المقالات في بعض الصحف القوميه مناقشة اي قضايا تهم المواطن , بداية من الحديث عن نهر النيل ومرورا بأسعار السلع ولاحتي انتقاد ازدحام المرور ، ولا التحدث عن الفساد في أي وزاره !!
ببساطه وعلي بلاطه ومثلما قالها لي ذات يوم رئيس تحرير سابق ( أعذريني …لأن الكرسي بيذل )!!
بينما قال من جاء للكرسي بعده اعذروني فأنا
( بينداس علي وجهي لو أن صحفي تحت رئاستي كتب ما لا يعجب )!!
ولأن الكراسي تذل أعناق أصحابها في بعض الحالات ، فالقارئ يدفع الثمن فلا يجد من يتحدث عن حاله وشكواه ، عن مرضه أو معاناته ، عن أحلامه أو أبسط حقوقه.
ومعذور ذلك الصحفي الشريف الذي لايجد لنفسه مكانا او موقعا وسط كل هذه الممنوعات ..فالبحث عن موضوعات تافهه للكتابه فيها ، من أشق وأصعب الأعمال علي نفس صحفي محترم مطلوب منه أن يقوم بها ، لذلك بختار بعض اصحاب الأقلام أن يتواري ، وينزوي البعض الٱخر ، ويؤثر البعض الابتعاد عن الساحه احتراما لقلمه وتاريخه المهني ، تقديرا لإسمه ومصداقيته التي استغرق سنوات طويله من العمل الجاد لتكوينهما. تاركا الساحه لحملة المباخر ولاعقي الأحذيه ممن يجيدون الأكل علي جميع الموائد.
وللقارئ أن يتخيل لو أن الصحفي في ايامنا هذه ، قرر أن يخوض معركة حقيقيه ليكتب تحقيقا صحفيا عن أسباب ارتفاع اسعار أسماك البلطي من ١٥ جنيه الي ١١٠ جنيه او ارتفاع سعر كيلو البطاطس طعام الفقراء من ٥ جنيه الي ٣٠ جنيه !! او اشتعال أسعار اللحوم والأجبان مثلا . ليجد نفسه متهما في الصباح بنشر أخبار كاذبه علي شاكلة كذبة أن ( بطيخ مولانا أقرع) !!
مع العلم انه فعلا بطيخ أقرع إ
عزيزي القارئ..
اعذرني واعذر كتابا كثيرين مثلي من أبناء مهنة الصحافه ، إذا أردنا أن نكتب فأجبرونا علي الصمت والتوقف عن الكتابه لأننا لانقبل إهانة أقلامنا أو تكميم ضمائرنا.
وكما قال أستاذ الصحافه جلال الحمامصي : قد لا تتمكن من كتابة ما تريد ولكن .إياك أن تخدع نفسك وتقول أنهم أجبروك علي ان تكتب ما يريدون.
ويبقي عزائي في النهايه أنني سأكتب يوما ما عن كل من منعني من الكتابه ..وكل من قال لي: لا لا تكتبي !
وعن كل ما صمتوا عنه وما ارادونا ان نكتمه ونخفيه وعن كل ما حرفوه وما أظهروه علي غير حقيقته ، وسأكتب أن بطيخ مولانا كان أقرع..حتي لو صرخ الأحياء منهم والأموات من قبورهم قائلين…. لا ..لا تكتبي.