د.محمد سليم يكتب ..”العداد الكودي.. من حل مشكلة إلى صناعة مشكلات جديدة”
“كن جزءًا من الحل، وليس جزءًا من المشكلة”، عبارة كثيرًا ما تتردد في عالم الإدارة والسياسات العامة، لكنها للأسف لا تنطبق على واقع أزمة العداد الكودي في مصر. فرغم الجهود التي بذلها وزير الكهرباء والطاقة المتجددة لحل مشكلة التوصيلات غير القانونية وسرقة التيار الكهربائي عبر إلغاء نظام “الممارسة” واستبداله بنظام العداد الكودي، إلا أن هذا الحل، بدلاً من أن يغلق الملف نهائيًا، تحول إلى باب جديد من الأزمات والمعاناة للمشتركين.
إلغاء نظام الممارسة.. خطوة في الاتجاه الصحيح أم فخ جديد؟
قرار إلغاء نظام “الممارسة” كان في ظاهره خطوة جيدة نحو تقنين أوضاع التوصيلات المخالفة، حيث يُلزم القرار المواطنين الذين يحصلون على الكهرباء بشكل غير قانوني بتركيب عدادات كودية مرتبطة ببطاقات الرقم القومي فقط، دون الحاجة إلى أوراق ملكية العقار. الهدف من القرار كان القضاء على ظاهرة سرقة التيار الكهربائي، وتحقيق العدالة في توزيع الأعباء على جميع المستهلكين.
لكن، ما إن بدأ التطبيق العملي للقرار، حتى ظهرت مشكلات جديدة لم تكن في الحسبان، وأبرزها “المقايسة”، وهي التكاليف التي يتم فرضها على المواطن لتركيب العداد الكودي، والتي قد تصل إلى عشرات أو حتى مئات الآلاف من الجنيهات، حسب طبيعة العقار وقوته الكهربائية.
المقايسة.. عقبة مالية أمام المشتركين
بدلًا من أن يكون العداد الكودي حلاً سهلاً وميسراً لتقنين أوضاع المخالفين، أصبح “المقايسة” عقبة مالية ضخمة أمام المواطنين، خاصة الفئات محدودة الدخل. فتكاليف المقايسة قد تصل في بعض الحالات إلى ما يعادل تكلفة بناء المنزل نفسه، ما يجعل الكثير من المواطنين عاجزين عن سدادها.
وفي حالة عدم الموافقة على سداد المقايسة، يجد المواطن نفسه أمام خيارين أحلاهما مر:
إما دفع الغرامات الضخمة التي تفرضها شركات التوزيع باعتباره يحصل على الكهرباء بطريقة غير قانونية.
أو مواجهة المساءلة القانونية بتهمة سرقة التيار الكهربائي.
وهكذا، بدلاً من أن يكون العداد الكودي حلاً عمليًا، تحول إلى وسيلة جديدة لإثقال كاهل المواطنين بديون وغرامات مالية ضخمة، دون تقديم حلول واقعية تتناسب مع قدراتهم الاقتصادية.
العداد الكودي وعقبة المحطات الشمسية.. معضلة أخرى
مشكلة أخرى برزت مع تطبيق نظام العداد الكودي، وهي حرمان المشتركين من تركيب محطات شمسية لتوليد الكهرباء من الطاقة المتجددة. فوفقًا للوائح الحالية، لا يمكن للمشترك الذي لديه عداد كودي أن يقوم بتركيب محطة شمسية إلا بعد الحصول على عداد قانوني دائم، ما يعني أن من يدفع تكلفة المقايسة الباهظة لتركيب العداد الكودي، لن يكون مؤهلاً للاستفادة من مشاريع الطاقة الشمسية، التي يمكن أن توفر له الكهرباء بتكلفة أقل على المدى البعيد.
هذا الأمر يمثل تناقضاً واضحاً مع توجه الدولة نحو تشجيع استخدام الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويُظهر أن السياسات الحالية ليست متكاملة ولا تراعي تحقيق التوازن بين الحلول المؤقتة والحلول المستدامة.
سيناريو “حل المشكلة وصناعة أخرى”.. إلى متى؟
ما يحدث اليوم مع أزمة العداد الكودي ليس جديدًا، بل هو امتداد لنهج إداري قديم يقوم على معالجة الأعراض بدلًا من حل المشكلة من جذورها. فكلما تم اتخاذ قرار لحل مشكلة ما، يتم خلق مشكلة أخرى بشكل غير مباشر، مما يؤدي إلى استمرار دائرة الأزمات التي لا تنتهي.
القرار الأخير بتحويل المواطنين إلى نظام العداد الكودي كان يمكن أن يكون خطوة جريئة نحو حل دائم، لكن غياب التخطيط المتكامل والتنسيق بين الجهات المختلفة، بالإضافة إلى عدم مراعاة البعد الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين، حوله إلى عبء جديد يثقل كاهل المشتركين.
ماذا يجب أن يحدث؟
إذا كانت الحكومة جادة في حل أزمة التوصيلات غير القانونية وسرقة التيار الكهربائي، فيجب أن يكون هناك حلول واقعية وشاملة تراعي احتياجات المواطنين وقدراتهم المالية. وهنا بعض المقترحات العملية:
إلغاء المقايسة أو تخفيضها بشكل كبير لتصبح في متناول الفئات محدودة الدخل، مع إمكانية تقسيطها على فترة زمنية طويلة.
إتاحة الفرصة للمشتركين بالعداد الكودي لتركيب محطات شمسية دون الحاجة إلى انتظار الحصول على عداد قانوني دائم، وذلك ضمن توجه الدولة نحو تشجيع الطاقة المتجددة.
إعادة النظر في اللوائح المنظمة لتركيب العدادات، بحيث يتم تبسيط الإجراءات وتقليل التكاليف بما يضمن تحقيق العدالة لجميع المواطنين.
إشراك طرف ثالث محايد، مثل الجمعيات الأهلية أو مكاتب استشارية ، في مراجعة حسابات المقايسة والتأكد من عدالتها وشفافيتها.
الخاتمة: عذراً معالي الوزير.. العداد الكودي لم يصبح حلاً كما تمنيت
ما حدث مع أزمة العداد الكودي يظهر بوضوح أن الحل الذي بدا في ظاهره معالجة جذرية لمشكلة التوصيلات غير القانونية وسرقة التيار، قد تحوّل إلى عبء إضافي على المواطنين بسبب حلقات خفية وشروط معقدة وضعتها بعض الجهات التنفيذية في شركات التوزيع. هذه الحلقات المدفونة قلّصت الفائدة من الحل، وجعلت تحقيق الاستدامة في قطاع الكهرباء أمرًا بعيد المنال.
القرار الذي كان من المفترض أن يُنهي فوضى التوصيلات المخالفة، أصبح بوابة جديدة لمشكلات مالية وقانونية يواجهها المواطنون، بدلًا من أن يحقق العدالة في الحصول على الكهرباء بشكل قانوني وميسّر. ما نراه اليوم هو استبدال مشكلة قديمة بمشكلة جديدة دون النظر إلى تبعات القرار وتأثيره على حياة المشتركين، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
لذلك، نقول بكل احترام: عذرًا معالي الوزير، حل العداد الكودي يحتاج إلى استكمال وتطوير. فبدلًا من أن يكون مجرد تغيير في نمط المشكلات التي يعاني منها المواطنون منذ عقود، يجب أن يتحول إلى حل حقيقي وعملي يعالج جذور المشكلة، ويأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمشتركين.
ونحن على ثقة بأنكم ستنظرون بعين الاعتبار إلى الحاجة الملحّة لتبني سياسات متكاملة وشاملة، تضمن للمواطنين حلولًا مستدامة وعادلة، وتحد من البيروقراطية التي تفرز مشكلات جديدة مع كل قرار يُتخذ. فالتحدي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن بين الالتزام بالقانون وتخفيف الأعباء عن المواطنين، وليس في خلق تعقيدات جديدة تُقيد المشتركين وتحرمهم من حقهم في الكهرباء، في وقت يحتاج فيه الجميع إلى الثقة في منظومة أكثر عدالة ومرونة.
د. م. محمد سليم سالمان
استشارى الطاقة
عضو المجلس العربى للطاقة المستدامة
رئيس قطاع المراقبة المركزية للاداء بكهرباء مصر سابقا